قانون البذور بين كارثة البلاد البيئية ومخاطر المسّ بالسيادة الغذائية

يعيش لبنان على وقع أزمة بيئية غير مسبوقة وأوضاع زراعية منهارة بفعل الجفاف والعدوان الإسرائيلي، يفاقمها تقصير الدولة المزمن. ورغم حجم التحديات، أعاد وزير الزراعة نزار هاني إلى الواجهة مشروع قانون قديم يتعلق بـ«تنظيم تجارة البذور والشتول ومواد الإكثار». لكن خلف العنوان التقني، يخشى كثيرون أن يؤدي هذا المشروع إلى انتزاع لبنان من سيطرته على أساسيات إنتاج الغذاء، في لحظة تتزايد فيها الضغوط الخارجية على البلد، ويصبح فيها تعزيز الاستقلال الغذائي حاجة وجودية.

فوفقاً للمشروع، يُطلب من أي مزارع – حتى في أبسط العمليات الزراعية – فحص البذور في المختبر، والحصول على ملكية فكرية وترخيص رسمي قبل زراعتها أو بيعها. وهي خطوة يراها المزارعون ضرباً من الخيال، وهم الذين اعتادوا تداول البذور البلدية وزراعتها بحرية منذ قرون. ويدرك واضعو القانون أن هذه التعقيدات ستدفع المزارعين إلى الخيار الأسهل: شراء البذور الهجينة من الشركات العالمية.

غير أن هذا الخيار يحمل مخاطره، إذ إن البذور الهجينة عقيمة بطبيعتها ولا تصلح إلا لموسم واحد، ما يرهن المزارع للشركات المنتجة ويحوّله إلى مستهلك دائم. وبذلك يُكرّس المشروع تبعية خطيرة لشركات تحتكر سوق البذور عالمياً، ويقوّض حق المزارعين في الحفاظ على بذورهم البلدية وقدرتهم على إعادة إنتاجها، في وقت يتعرّض فيه لبنان لتهديدات مرتبطة بالغذاء، ولا سيما مع احتمال استخدام “التجويع” كسلاح.

مشروع القانون، الذي طُرح أول مرة قبل أربع سنوات وتم تطويره بتمويل من منظمة إيطالية، عاد اليوم إلى اللجان النيابية «على السكت». لكن جمعيات بيئية وزراعية سارعت إلى التحذير من مخاطره، معتبرة أن نُسخته المعدّلة لا تقلّ خطورة عن الأصلية. وقد دفع الضغط الشعبي الوزير إلى عقد جلسة استماع مع الخبراء، طلب خلالها آراء مكتوبة قبل نهاية العام.

رغم أن المشروع يُقدَّم بصفته تنظيماً للتجارة وضماناً للجودة، إلا أن شروط التسجيل والترخيص المعقّدة ستقصي المزارعين الصغار، وتفتح الباب واسعاً أمام الشركات الكبرى للسيطرة على سوق البذور. وتجزم الجمعيات بأن القانون يميل بشكل واضح إلى الأصناف التجارية الهجينة على حساب البذور المحلية التي شكّلت أساس الأمن الغذائي عبر التاريخ.

المزارعون أنفسهم رفعوا الصوت. ففي البقاع، يستعدّ عدد منهم لتقديم اعتراضات رسمية، محذرين من أن القانون يفرض عليهم بذوراً «غريبة عن بيئتهم»، ويهدد أصنافاً لبنانية أصيلة تكيفت مع الأرض والمناخ عبر مئات السنين. فالزراعة البلدية، كما يقولون، أثبتت قدرتها على الإنتاج من دون دعم، بعكس الهجين الذي يتطلب كلفة مستمرة ويضع رقابهم في يد الشركات.

حتى «الهيئة الوطنية لحقوق الإنسان» حذّرت من أن المشروع يُغفل الحقوق الاجتماعية والبيئية للمزارعين، ويكرّس الفوارق في الريف، داعية إلى حماية البذور المحلية من التلوث الجيني ومن استغلال الشركات عبر براءات الاختراع.

ويشير خبراء الائتلاف الزراعي إلى أن انتشار البذور الهجينة سيقضي تدريجياً على الأصناف البلدية عبر التلقيح العشوائي، فيما ستفتح أحادية المحاصيل الباب أمام كوارث زراعية كبرى في حال انتشار أي مرض جديد. كما أن الاعتماد على الهجين سيزيد من استخدام السموم والأسمدة، ما يعني تربة فقيرة، مزارعين فقراء، ومستهلكين أكثر عرضة للأمراض.

الأخطر أن المشروع يتزامن مع تحركات جهات خارجية مهتمّة بالقطاع الزراعي اللبناني. فالشركة الإيطالية التي ساهمت في إعداد القانون هي نفسها التي موّلت بنك البذور، فيما تشهد المنطقة تضييقاً على الإنتاج الزراعي، وصولاً إلى استهداف إسرائيل لبنوك البذور الأصلية في غزة. وتخشى الجمعيات أن يكون الهدف النهائي هو دفع لبنان نحو نموذج زراعي يعتمد بالكامل على البذور العالمية، ما يسهّل التحكم بإنتاجه الغذائي.

ورغم اعتراف وزير الزراعة بأن المشروع يحمل مخاطر حقيقية، لا يزال مصرّاً على المضي به بعد إدخال تعديلات «تحسينية»، بدعوى مواكبة التطور العالمي. إلا أن التجارب الدولية، من الهند إلى دول أفريقية، تُظهر أن قوانين مشابهة قادت إلى موجات انتحار بين المزارعين بعدما فقدوا بذورهم المحلية ووقعوا في فخ الديون نتيجة الاعتماد على الهجين.

في المحصلة، يتجاوز الجدل حول مشروع القانون الجانب التقني، ليصبح معركة على هوية لبنان الزراعية وعلى حق المزارعين في البقاء. وبين ضغوط الشركات الدولية ومخاطر التوقيت السياسي، يخشى المهتمون أن يُمرّر القانون «على غفلة»، ما يفتح الباب على مرحلة جديدة من التبعية الغذائية في بلد أحوج ما يكون إلى الحفاظ على ما تبقى من عناصر صموده.

  • تدوينات ذات صلة

    مشروع “الاستبدال” السياسي: قراءة في خطاب شارل جبور التصعيدي

    أزاح رئيس جهاز الإعلام في حزب “القوات اللبنانية” شارل جبور الستار عن رؤية حزبه حيال مكوّن أساسي من مكوّنات المجتمع اللبناني، في خطوة تعيد إنتاج النهج الإقصائي الذي طبع تجربة…

    واشنطن: لا حرب وشيكة في لبنان… واجتماع الناقورة يفتح باب “التعاون الاقتصادي”

    ذكر موقع «أكسيوس» أنّ مسؤولاً أميركياً أكّد عدم وجود نية لدى إدارة الرئيس دونالد ترامب لدعم استئناف إسرائيل العمليات العسكرية في لبنان خلال الأسابيع المقبلة. وبحسب المصدر، فإنّ اغتيال هيثم…

    اترك تعليقاً

    لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *