في مقابلته الأخيرة، اختصر حاكم مصرف لبنان السابق رياض سلامة—المتهم باختلاس المال العام—أكبر انهيار مالي ونقدي يشهده لبنان بـ«مؤامرة» قال إنها استهدفته شخصياً. سلامة قدّم رواية مفادها أن القصة بدأت عام 2015، حين حاول المدير العام السابق للمالية ألان بيفاني، بحسب زعمه، تصديق تقرير مزوّر من شركة في مدينة ليون الفرنسية يتهمه بتحويل ملياري دولار من أموال مصرف لبنان لصالحه.
ويرى سلامة أن هذا التقرير استُخدم حينها لعرقلة وصوله إلى رئاسة الجمهورية، ثم جرى توظيفه لاحقاً في حملة «شيطنته» وتهيئة الطريق لتدمير القطاعين المالي والمصرفي. لكن المفارقة أن توقيت انتشار التقرير جاء مناسباً لسلامة، إذ أتاح له تثبيت ولايته، بعدما قال في مقابلة شهيرة: «طالما أنا في المركزي، الليرة بخير»… قبل أن يتبيّن لاحقاً أن شيئاً من ذلك لم يكن صحيحاً.
قصة تقرير «كريستال» ليست جديدة. فالرؤساء الثلاثة تسلّموا عام 2016 نسخة من ملف مؤلّف من 12 صفحة، منسوب إلى شركة تدقيق فرنسية تدعى «كريستال غروب إنترناشونال»، يتّهم «أفضل حاكم مصرف مركزي» باختلاس مليارات الدولارات. لكن التقرير لم يحمل توقيعاً رسمياً، ما استدعى «تصديقه». وهنا، بحسب سلامة، دخل بيفاني على الخط بمحاولة مزعومة لم يثبتها أي دليل.
إلا أن رواية سلامة سرعان ما تصطدم بمعطيات معاكسة. فبيفاني، وفق مصادر مطلعة، زار فرنسا بعد ثلاث سنوات من انتشار التقرير، ما يجعل اتهام سلامة له باطلاً من أساسه. أما الشركة الفرنسية نفسها، فنفى رئيسها لاحقاً أي علاقة لها بالمستند المسرّب، وأكد أنه لم يصدر عنها أو عن أي موظف فيها. وفي 2022، حصل سلامة على إفادة رسمية من «كريستال» تؤكد أنها ليست الجهة المعدّة للتقرير، لكنه واصل اتهام بيفاني من دون أن يقدم أي إثبات.
ورغم ذلك، بنى سلامة سرديته كاملة على ما سمّاه «المؤامرة». مرة اعتبر التقرير أداة «لتحطيم القطاع المصرفي»، ومرة أخرى رأى فيه جزءاً من خطة لمنعه من الترشح للرئاسة. علماً أن مصادر سياسية عدّة كانت تتحدث في تلك الفترة عن كونه «المرشح الأوفر حظاً» بعد نهاية عهد الرئيس ميشال عون. حتى أحد وزراء المال السابقين قال قبل اندلاع أزمة 2019 إنه يثق بأن «رياض اشترى وقتاً حتى عام 2022»، في إشارة إلى معرفته المسبقة بتدهور الوضع المالي، وإلى أن «الهندسات المالية» لم تكن سوى عملية تأجيل للانفجار الكبير.
وبغض النظر عن الروايات المتعددة، تبقى الوقائع ثابتة: فقد كان سلامة في موقع القرار قبل الانهيار وأثناءه وبعده، تحت حماية سياسية كاملة، من دون أن يُحاسب أي مسؤول شارك في السياسات المالية التي قادت البلاد إلى الكارثة. وحده سلامة وُجّهت إليه تهم رسمية باختلاس المال العام، فيما يحاول اليوم إعادة صياغة الحكاية بعيداً عن الحقائق الدامغة.





