في خطوة وُصفت بأنها تصعيد غير مسبوق يتجاوز كل الأعراف الدبلوماسية والقوانين الدولية، أعلن الرئيس الأميركي دونالد ترامب عبر منصّة “تروث سوشال” إغلاق المجال الجوي الفنزويلي “بشكل كامل”. هذا القرار، الذي يعيد إلى الأذهان ممارسات القوى الاستعمارية القديمة، يأتي في ظل توتر عسكري متزايد في البحر الكاريبي، وفي وقت صنّفت فيه واشنطن المؤسسات الرسمية الفنزويلية كـ”منظمات إرهابية” ضمن إطار ما تسميه “الحرب على المخدرات”، بما يشير إلى احتمال التمهيد لمرحلة مواجهة أوسع تهدف إلى الضغط على كاراكاس وربما إسقاط حكومتها.
ورغم عدم امتلاك ترامب أي سلطة قانونية على أجواء دولة ذات سيادة، أصدرت “هيئة الطيران الفدرالية” الأميركية تحذيرات أمنية للطائرات المدنية بشأن التحليق فوق فنزويلا، الأمر الذي دفع العديد من شركات الطيران الدولية إلى الالتزام تجنباً للعقوبات. في المقابل، ردّت كاراكاس بقرارات حاسمة، ووصفت تصريحات ترامب بأنها “تهديد استعماري” و”عدوان غير مبرّر”. كما ألغت حقوق التشغيل لست شركات طيران تجاوبت مع التحذيرات الأميركية، وعلّقت من جانب واحد رحلات ترحيل المهاجرين التي كانت واشنطن تعتمد عليها في برامجها.
وفي سياق متصل، تنفّذ الولايات المتحدة عملية “الرمح الجنوبي” في البحر الكاريبي، حيث تشير تقارير ميدانية إلى أن القوات البحرية الأميركية، المدعومة بحاملة الطائرات الأكبر في العالم ومدمّرات وغواصة نووية، نفّذت أكثر من 21 عملية قصف أسفرت عن مقتل ما يزيد على 80 شخصاً. وبينما تدّعي واشنطن أن الأهداف تابعة لشبكات تهريب المخدرات، تصف تقارير غربية هذه العمليات بأنها “قتل خارج إطار القانون”، مع معلومات تفيد بوجود أوامر غير رسمية من وزير الدفاع الأميركي بيت هيغسيث لاستهداف جميع من على متن القوارب.
ولتبرير هذا التصعيد، لجأت الولايات المتحدة إلى اتهام الرئيس نيكولاس مادورو ومسؤولين كبار في حكومته بالانتماء إلى ما تسمّيه “كارتل الشموس”، إضافة إلى رصد مكافآت مالية ضخمة للقبض عليهم، في خطوة تُقرأ بأنها تمهيد لاستهداف مباشر للقيادة الفنزويلية. وترافق ذلك مع تصريحات لوزير الخزانة الأميركي سكوت بيسنت ألمح فيها إلى أن “أي تغيير في فنزويلا” قد يؤدي إلى خفض أسعار النفط، ما كشف الدوافع الاقتصادية وراء التصعيد.
وفي خضم هذه التطورات، تسرّبت معلومات عن مكالمة هاتفية جرت الأسبوع الماضي بين ترامب ومادورو، بحضور وزير الخارجية الأميركي ماركو روبيو. ورغم أن البعض اعتبرها محاولة للتهدئة أو لطرح “إنذار أخير”، إلا أن السياق العام يوحي بأن الإدارة الأميركية تمارس سياسة “التفاوض تحت الضغط”، خصوصاً أن التهديدات بشن عمليات داخل فنزويلا متواصلة، في وقت تظهر فيه استطلاعات الرأي رفضاً أميركياً واسعاً لأي حرب جديدة.
ويرى خبراء في شؤون أميركا اللاتينية أن ترامب وضع الجيش الأميركي والمعارضة اليمينية في فنزويلا في “مأزق استراتيجي”، إذ إن سياسة “الضغط المتصاعد” لم تحقق الانهيار الذي كانت واشنطن تسعى إليه داخل المؤسسة العسكرية الفنزويلية، بل دفعت كاراكاس إلى تعزيز استعداداتها الدفاعية وحشد الميليشيات الشعبية. أمام هذا الواقع، يبرز سيناريوان رئيسيان:
– الأول: أن تكتفي واشنطن بإظهار القوة والضربات البحرية المحدودة، قبل أن تسحب قواتها تدريجياً، ما سيؤدي إلى تقوية موقف مادورو وإضعاف المعارضة المتحالفة معها.
– الثاني: أن يمضي ترامب نحو تنفيذ تهديداته عبر عملية عسكرية أوسع، سواء بضربات جوية داخل فنزويلا أو بإنزال بري محدود للسيطرة على موارد النفط. لكن هذا الخيار ينطوي على مخاطر كبيرة، إذ تستعد القوات الفنزويلية والميليشيات الشعبية لحرب استنزاف طويلة.
بهذه التطورات، تبدو المنطقة مقبلة على مرحلة شديدة الحساسية، قد تحدد مسار الصراع بين واشنطن وكاراكاس في الأشهر المقبلة.






